الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} "روى البخاري أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر الصفا لأن آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، والله اعلم. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى [إسافا] وعلى المروة صنم يدعى [نائلة] فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، والله تعالى أعلم. والصفا مقصورجمع صفاة، وهي الحجارة الملس. وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صفي بضم الصاد وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز: وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب والطين. والمروة واحدة المرو وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر: وقال أبو ذؤيب: وقد قيل: إنها الحجارة السود. وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار. قوله تعالى{من شعائر الله{ أي من معالمه ومواضع عباداته، وهي جمع شعيرة. والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس، من الموقف والسعي والنحر. والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت: قوله تعالى{فمن حج البيت{ أي قصد. وأصل الحج القصد، قال الشاعر: السب: لفظ مشترك. قال أبو عبيدة: السب بالكسر الكثير السباب. وسبك أيضا الذي يسابك، قال الشاعر: والسب أيضا الخمار، وكذلك العمامة، قال المخبل السعدي: والسب أيضا الحبل في لغة هذيل، قال أبو ذؤيب: والسبوب: الحبال. والسب: شقة كتان رقيقة، والسبيبة مثله، والجمع السبوب والسبائب، قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر: اللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة. قوله تعالى{أو اعتمر{ أي زار والعمرة: الزيارة، قال الشاعر: قوله تعالى{فلا جناح عليه{ أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية. قال ابن العربي{وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله تعالى{فلا جناح عليه أن يطوف بهما{ قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله{فلا جناح عليه أن يطوف بهما{ دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما{ فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا{. فإن قيل: فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما{ وهي قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبي كذلك، ويروىعن أنس مثل هذا. والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون {لا{ زائدة للتوكيد، كما قال: "روى الترمذي واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك، لقوله عليه السلام: قلت: وهذا ثابت "في صحيح البخاري" على ما يأتي بيانه في سورة إبراهيم. ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال: (خذوا عني مناسككم). وإنما جوزنا ذلك من العذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة وقد قالت له: إني اشتكي، فقال: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} قوله تعالى{إن الذين يكتمون ما أنزلنا{ أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون. واختلفوا من المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام، وقد مضى القول في هذا. وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قوله تعالى{من البينات والهدى} يعم المنصوص عليه والمستنبط، لشمول اسم الهدى للجميع. وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم، والله تعالى اعلم. لما قال{من البينات والهدى{ دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبدالله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى اعلم. قوله تعالى{من بعد ما بيناه{ الكناية في {بيناه{ ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة. قوله تعالى{أولئك يلعنهم الله{ أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للّعين قوله تعالى{ويلعنهم اللاعنون{ قال قتادة والربيع: المراد {باللاعنون{ الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال{اللاعنون{ الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا. قلت: قد جاء بذلك خبر فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟ قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} قوله تعالى{إلا الذين تابوا{ استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في {النساء{ إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء في قوله{وبينوا{ أي بكسر الخمر وإراقتها. وقيل{بينوا{ يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه. والعموم أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه، والله تعالى اعلم. {فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم{ تقدم ولله الحمد والمنة. {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} قوله تعالى{وهم كفار{ الواو واو الحال. قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه، لأن حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم. قال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله، وقد قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه. ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتا أو مجنونا. وقال قوم من السلف: إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به. والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى قلت:" خرجه البخاري ومسلم"، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال عليه السلام: قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قوله تعالى{أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} أي إبعادهم من رحمته وأصل اللعن: الطرد والإبعاد، وقد تقدم. فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب. وقرأ الحسن البصري {والملائكة والناس أجمعون{ بالرفع. وتأويلها: أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون، كما تقول: كرهت قيام زيد وعمرو وخالد، لأن المعنى: كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف. فإن قيل: ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، قيل عن هذا ثلاثة أجوبة، أحدها: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل. الثاني: قال السدي: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه. الثالث: قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس، كما قال تعالى {خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} قوله تعالى{خالدين فيها{ يعني في اللعنة، أي في جزائها. وقيل: خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم {ولا هم ينظرون{ أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات. و{خالدين{ نصب على الحال من الهاء والميم في {عليهم{، والعامل فيه الظرف من قوله{عليهم{ لأن فيها معنى استقرار اللعنة. {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} قوله تعالى{وإلهكم إله واحد{ لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت كفار قريش: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى سورة {الإخلاص{ وهذه الآية. وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما، فبين الله أنه واحد. قوله تعالى{لا إله إلا هو{ نفي وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله. وحكي عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول: الله، ولا يقول: لا إله، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار. قلت: وهذا من علومهم الدقيقة، التي ليست لها حقيقة، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم. وقال صلى الله عليه وسلم: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} قال عطاء: لما نزلت {وإلهكم إله واحد} قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد، فنزلت {إن في خلق السماوات والأرض} ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت {وإلهكم إله واحد{ قالوا هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله تعالى {إن في خلق السموات والأرض{ فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع. وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى. ووحد الأرض لأنها كلها تراب، والله تعالى اعلم. فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية. وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها. قوله تعالى{واختلاف الليل والنهار{ قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم. وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل. ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى، وهو مما شذ عن قياس الجموع، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة. وقد استعملوا ذلك في الشعر قال: وقال آخر: يا ويحه من جمل ما أشقاه قال ابن فارس في المجمل: ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نَهَر جمع نُهُر وهو جمع الجمع للنهار، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير. والأول أكثر، قال الشاعر: قال ابن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار. ويقال: إن النهار يجمع على النهر. والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورجل نهر: صاحب نهار. ويقال إن النهار فرخ الحبارى. قال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال ثعلب: أوله عند العرب طلوع الشمس، استشهد بقول أمية بن أبي الصلت. وأنشد قول عدي بن زيد: وأنشد الكسائي: قال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس. وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. قلت: والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما رواه ابن فارس في المجمل، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول، خرجه النسائي. وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{والفلك التي تجري في البحر{ الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر، قال تعالى ووجه الآية في الفلك: تسخير اللّه إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: اصنعها على جؤجؤ الطائر، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله ابن العربي. هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد. ومن السنة حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام، أخرجهما الأئمة: مالك وغيره.روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس. هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي اللّه عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسنة يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع. وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا. ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن اللّه تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها، فسهل اللّه سبيله بالفلك، قاله ابن العربي. قال أبو عمر: وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال: إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا، فلذلك كره مالك ذلك. وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال: والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالا، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن، ولم يخص بحرا من بر. قلت: فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، فهي الحجة وفيها الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد المفرط الميد، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض، فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه ويمنع منه. ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون. قوله تعالى{بما ينفع الناس{ أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا. وقد قال بعض من طعن في الدين: إن اللّه تعالى يقول في كتابكم قوله تعالى{وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها{ يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى قوله تعالى{وبث فيها من كل دابة{ أي فرق ونشر، ومنه وقال علقمة بن عبدة: قوله تعالى{وتصريف الرياح{ تصريفها: إرسالها عقيما وملقحة، وصرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة. وقيل: تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا، ودبورا وصبا، ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل: تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضر بهما، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا. "روى أبو داود قال ابن الأعرابي: النسيم أول هبوب الريح. وأصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح، ولا يقال: أرياح، لأنها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة {وتصريف الأرواح{. قوله تعالى{وتصريف الرياح{ قرأ حمزة والكسائي {الريح{ على الإفراد، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية، لا خلاف بينهما في ذلك 0 ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى. وأفرد حمزة قال العلماء: الريح تحرك الهواء، وقد يشتد ويضعف. فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح{الصبا{. وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح{الدبور{. وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها{ريح الجنوب{. وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها{ريح الشمال{. ولكل واحدة من هذه الرياح طبع، فتكون منفعتها بحسب طبعها، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن اللّه تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة، لأن الهواء في الصيف حار يابس، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة، لأن الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار. فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة، ومباين له في الأخرى وهو اليبس، لأن الهواء في الشتاء بارد رطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح، فلا تتحرك إلا أن يعيد اللّه تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن اللّه سبحانه وتعالى. وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه، إلا أن الأصول هذه الأربع. فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى {النكباء{. قوله تعالى{والسحاب المسخر بين السماء والأرض{ سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء 0 وسحبت ذيلي سحبا. وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والسحب: شدة الأكل والشرب. والمسخر: المذلل، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر. وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، والأول أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب، "روى مسلم قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، رواه عنه ابن عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبدالله بن خبيب الجهني قال: رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس: هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال: نعم، قال: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قال: سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا، وتنبت عاما قابلا غيره؟ قال نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء. قال ابن عباس: وقد سمعت ذلك من كعب.
قوله تعالى{لآيات{ أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله{وإلهكم إله واحد{ ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها. قيل له: هذا محال، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال. ثم أن اللّه تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} لما أخبر اللّه سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا، وواحدها ند، وقد تقدم. والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة اللّه مع عجزها، قاله مجاهد. قوله تعالى{يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله{ أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد، وقال معناه الزجاج. أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. وقال ابن عباس والسدي: المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي اللّه. وجاء الضمير في {يحبونهم{ على هذا على الأصل، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل. وقال ابن كيسان والزجاج أيضا: معنى {يحبونهم كحب اللّه{ أي يسوون بين الأصنام وبين اللّه تعالى في المحبة. قال أبو إسحاق: وهذا القول الصحيح، والدليل على صحته{والذين آمنوا أشد حبا لله{ وقرأ أبو رجاء {يحبونهم{ بفتح الياء. وكذلك ما كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب. قال الفراء: أنشدني أبو تراب: و{من{ في قوله {من يتخذ{ في موضع رفع بالابتداء، و{يتخذ{ على اللفظ، ويجوز في غير القرآن {يتخذون{ على المعنى، و{يحبونهم{ على المعنى، و{يحبهم{ على اللفظ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في {يتخذ{ أي محبين، وإن شئت كان نعتا للأنداد، أي محبوبة. والكاف من {كحب{ نعت لمصدر محذوف، أي يحبونهم حبا كحب اللّه. {والذين آمنوا أشد حبا لله{ أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم. وقيل: إنما قال {والذين آمنوا أشد حبا لله{ لأن اللّه تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه. ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال اللّه تعالى قوله تعالى{ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب{ قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء، وهو اختيار أبي عبيد. وفي الآية إشكال وحذف، فقال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا. و{يرى{ على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب {معاني القرآن{ له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب {إعراب القرآن{ له: وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه اللّه تعالى، ولكن التقدير وهو قول الأخفش: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله. و{يرى{ بمعنى يعلم، أي لو يعلمون حقيقة قوة اللّه عز وجل وشدة عذابه، فـ {يرى{ واقعة على أن القوة لله، وسدت مسد المفعولين. و{الذين{ فاعل {يرى{، وجواب {لو{ محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال عز وجل. أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت {إذ{ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه. وقرأ ابن عامر وحده {يرون{ بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر {إن القوة، وإن اللّه{ بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله. وثبت بنص هذه الآية القوة لله، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، تعالى اللّه عن قولهم. {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} قوله تعالى{إذ تبرأ الذين اتبعوا{ يعني السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر. عن قتادة وعطاء والربيع. وقال قتادة أيضا والسدي: هم الشياطين المضلون تبرؤوا من الإنس. وقل: هو عام في كل متبوع. {ورأوا العذاب{ يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا. وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة. قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال. قوله تعالى{وتقطعت بهم الأسباب{ أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره. الواحد سبب ووصلة. وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا. وقال السدي وابن زيد: إن الأسباب أعمالهم. والسبب الناحية، ومنه قول زهير: {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} قوله تعالى{وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة{ {أن{ في موضع رفع، أي لو ثبت أن لنا رجعة {فنتبرأ منهم{ جواب التمني. والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، أي قال الأتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم {كما تبرؤوا منا{ أي تبرأ كما، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نصبا على الحال، تقديرها متبرئين، والتبرؤ الانفصال. قوله تعالى{وما هم بخارجين من النار} دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية ولقوله تعالى {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} قوله تعالى{يا أيها الناس} قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في {الأنعام{ و{الأعراف{ إن شاء اللّه تعالى. قوله تعالى{حلالا طيبا{ {حلالا{ حال، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبدالله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو عبدالله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة اللّه عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة. قوله تعالى{ولا تتبعوا{ نهي {خطوات الشيطان{ {خطوات{ جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة بالضم : ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة بالفتح المرة الواحدة، والجمع خطوات بالتحريك وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس: وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير {خطوات{ بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش {خطؤات{ بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس{خطوات الشيطان{ أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في المعاصي. قلت: والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في {الشيطان{ مستوفى. قوله تعالى{إنه لكم عدو مبين{ أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر اللّه تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل{ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين{، {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} قوله تعالى{إنما يأمركم بالسوء والفحشاء{ سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال اللّه تعالى الأمر عندي فيهما واحد لذاك شكر ولذاك صبر والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال: ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، واللّه تعالى أعلم. قوله تعالى{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون{ قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا. {وأن تقولوا{ في موضع خفض عطفا على قوله تعالى{بالسوء والفحشاء}. {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} قوله تعالى{وإذا قيل لهم{ يعني كفار العرب. ابن عباس: نزلت في اليهود. الطبري: الضمير في {لهم{ عائد على الناس من قوله تعالى{يا أيها الناس كلوا{. وقيل: هو عائد على {من{ في قوله تعالى قوله تعالى{أولو كان آباؤهم{ الألف للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم. تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم اللّه تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح. التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا. وقيل: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم: التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول. فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب {الانتصار{ له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي اللّه عنهم، فكانوا داخلين فيمن ذمهم اللّه بقوله قال ابن الحصار: وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه، واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الإغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة. فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الأمر على السلطان، حتى قال الأمير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك. فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبدالله بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم وكان من درج من المسلمين من هذه الأمة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف. قلت: ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، واللّه أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن، وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.
|